العدالة التجارية بين الإسلام والنظم الوضعية (3-3)
- Dr. Amal Khairy
- 7 أبريل 2013
- 6 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: 18 يوليو 2019

(التجارة الطيبة) نموذج مقترح للعدالة التجارية فى الدول الإسلامية
د. أمل خيري
سبق أن أشرنا إلى أهمية نظام التجارة العادلة، ودوره فى تمكين صغار المنتجين فى الدول النامية، وتنمية المجتمعات، والمساهمة فى القضاء على البطالة والفقر، وكل هذه الأدوار تقف على رأس أولويات النظام الاقتصادى فى الإسلام، ومع ذلك تكتنف منظومة التجارة العادلة العديد من المحاذير الشرعية خاصة فى جانب التمويل الربوى، مما يستلزم محاولة وضع نموذج شرعى لتطبيق التجارة العادلة فى الدول الإسلامية بما يتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن أغلب الدول الإسلامية يوجد فيها منتجون يعملون وفق منظومة التجارة العادلة، فإنه لا يوجد ما يضمن أن ينتج هؤلاء منتجات محرمة ومحظورة شرعا، بل الواقع يؤكد أن الخمر واحدة من المنتجات التى تشجع التجارة العادلة على إنتاجها، وتنتشر – مع الأسف- فى عدة دول إسلامية من بينها لبنان، وقد أخبرتنى المسئولة الإقليمية للمنظمة الدولية للتجارة العادلة فى الشرق الأوسط أنها كانت فى زيارة مؤخرا للبنان لتنشيط إنتاج النبيذ (الخمر)، ودراسة نقل التجربة إلى دول أخرى مجاورة!.
ومن هنا كانت الحاجة لاقتراح نموذج إسلامى لتطبيق التجارة العادلة فى الدول الإسلامية.
التجارة الطيبة
من أجل العمل على تحويل فكرة العدالة التجارية فى الإسلام إلى واقع، اقترحنا إنشاء نموذج تجارى جديد لا يسعى لتحقيق العدالة التجارية فحسب، بل يتعداها إلى العدالة الإنتاجية والاستهلاكية، وقد أسميت النموذج المقترح «التجارة الطَّيِّبَة» Good Trade، التى تحمل مُنتَجاتها شعار «طَيِّبات» «Taibat»؛ بحيث يرمز الشعار إلى نموذج جديد فى التجارة الدولية، وفق الشريعة الإسلامية.
ويقصد بـ«الطَيِّبات» فى المعنى الشرعى، كما ورد فى القرآن والسنة: كلّ سلعة تتّصف بالحسن والنقاء والطهارة؛ وعكسها الخبائث. ومن ثَمَّ فالطَيِّبات هى المواد النافعة الخيرة الممنوحة من الله للعباد، التى تضمن فى استهلاكها منافع مادية وأخلاقية وروحية للمستهلك.
إذن أقصد بـ«التجارة الطَّيِّبَة»: التجارة المشروعة المباحة التى يبتغى بها وجه الله، ويحرص فيها على الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، بداية بالعملية الإنتاجية التى تضمن دعم صغار المنتجين، وصيانة حقوق العمال المشاركين فيها، وما يصاحبها من تمويل إنتاجى ينضبط بالمعايير الشرعية، ومرورا بالحرص على إنتاج الطَيِّبات من الرزق وفق ما شرعه الله، واجتناب الخبائث والمحرمات، مع العمل على حماية البيئة كما يحث عليها الإسلام، وانتهاء بتسويق المنتجات بأسعار عادلة لكل من المنتج والمستهلك.
ويهدف النموذج المقترح للتجارة الطيبة إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة:
- تقرير اعتماد دولى للمنتَج الإسلامى:
من خلال علامة تجارية مسجلة، يتم منحها وفق مواصفات محددة، تضمن توحيد جهة اعتماد المنتجات من جهة، واكتساب ثقة المستهلك من جهة ثانية.
1- رعاية مصالح المنتج والمستهلك:
فالمنتج سيحصل على السعر العادل لمنتجاته، مقابل منتج إسلامى لا يخالف الشريعة، والمستهلك أيضا يحصل على سلعة تتفق فى إنتاجها مع الضوابط الشرعية من جهة، وتعمل على تشجيع حماية البيئة والحفاظ على صحة الإنسان من جهة ثانية لاحتوائها على الطَيِّبات التى أباحها الإسلام فحسب.
2- رعاية المصالح الاقتصادية للدول الإسلامية:
فقد استهدفنا من هذا النموذج خفض معدلات التفاوت الاقتصادى بين الدول الإسلامية؛ إذ يمكن تدعيم اقتصادات الدول الفقيرة داخل مجموعة الدول الإسلامية عبر شراء الدول الغنية منتجاتها المعتمدة وفق العلامة التجارية، ما يساهم ولو بنسب ضئيلة فى تقليل الفجوة بينها وبين الدول الغنية.
كما يعمل تطبيق نظام التجارة الطيبة على تحقيق الاكتفاء الذاتى للأمة الإسلامية، من خلال تشجيع التبادل التجارى بين الدول المنتجة للمواد الزراعية، والدول المستهلكة لها؛ ففى الوقت الذى بلغ فيه إجمالى واردات الدول الإسلامية من المنتجات الغذائية 96,7 بليون دولار عام 2007م -أى ما يعادل 10,8% من الإجمالى العالمى للصادرات الغذائية- فإن إجمالى صادرات الدول الإسلامية من المنتجات الغذائية بلغ 72,2 بليون دولار فى العام نفسه؛ ومن ثَمَّ فإن هناك عجزا فى الميزان التجارى للأغذية يبلغ 24,5 بليون دولار، وهو ما يمكن تعويضه من خلال العمل على تشجيع صغار المنتجين فى الدول الفقيرة على الإنتاج، بتوجيه فائض الاستثمارات الإسلامية إلى تمويل هؤلاء المنتجين، بدلا من تركهم فريسة لنظم التمويل الربوى التى تتبعها منظومة التجارة العادلة من جهة، والاستفادة من الفوائض المالية الإسلامية الهائلة التى تصل إلى أكثر من 800 مليار دولار مودعة فى البنوك الغربية من جهة أخرى.
ومن هنا فإن النموذج المقترح سيساهم فى تحقيق الاكتفاء الذاتى لدول العالم الإسلامى، من خلال تشجيع الإنتاج فى الدول الفقيرة، التى تعتمد غالبا على المحاصيل الزراعية الأساسية، وتسويق هذه المنتجات فى الدول الغنية، التى تفتقر إلى هذه المحاصيل فى الغالب، بدلا من استيرادها من خارج العالم الإسلامى.
أيضا يعمل نموذج التجارة الطيبة على زيادة معدلات التجارة البينية بين الدول الإسلامية، وتيسير إقامة سوق إسلامية مشتركة خطوةً هامة على طريق تحقيق التكامل الاقتصادى بين بلدان العالم الإسلامى، فتشير التقديرات إلى أن حجم التجارة البينية فى الدول الإسلامية لم يتجاوز 17% حتى منتصف عام 2011، وبالنظر إلى هيكل التجارة الإسلامية البينية، يتبين أن صادرات المواد الغذائية لا تمثل سوى 19% من إجمالى التجارة البينية؛ ومن ثم فإن هذا النموذج سيعمل على تدعيم التجارة البينية فى مجال السلع الزراعية والمواد الغذائية على وجه الخصوص، من خلال الاستفادة من منتجات الدول الإسلامية الداخلة فى منظومة التجارة العادلة والتى تبلغ خمسين دولة، وأغلبها من الدول الفقيرة المنتجة للمحاصيل الزراعية.
خصائص التجارة الطيبة
تتميز منظومة التجارة الطيبة التى نقترحها باستيعاب قيم العدالة الإنتاجية، التى لا تظلم المنتج أو المستهلك، فمن جهة تضمن حماية حقوق المنتجين وتعزيز المساواة بينهم، وصيانة حقوق العمال؛ من حيث تجريم العمل بالسخرة، وتقرير حقهم فى الأجر العادل الذى يحقق كفايتهم، وضمان المعاملة اللائقة، وكذلك حماية الأطفال من شتى أنواع الأعمال التى قد تتسبب فى ضرر جسمانى أو نفسى للطفل، ومنع التمييز ضد المرأة، أو الأقليات العرقية أو المذهبية، ومن جهة أخرى يقرِّر للمستهلك حقا فى الحصول على منتجات آمنة لصحته تحوى الطَيِّبات، وتبتعد عن الخبائث، وبأسعار عادلة للطرفين.
كما أن مبادئ العدالة وفق هذا النموذج تشمل كذلك العملية الإنتاجية بأسرها، بداية من تمويل المنتجين وفق قواعد عادلة تحمى حقوق المنتج والمشترى، مرورا بعملية الإنتاج نفسها، سواء قام بها المنتج بنفسه أو استعان بالعمال الذين يجب أن يقرر لهم حقوقهم العادلة كاملة، وانتهاء بعملية التسويق التى ينبغى أن تتسم بالعدالة والشفافية، سواء فى جانب المنتِج بحصوله على أسعار عادلة لمنتجاته، أو المستهلك بحصوله على سلع ذات جودة مرتفعة وبأسعار معقولة، نتيجة تقليل عدد الوسطاء بين المنتج والمشترى.
كما تتميز التجارة الطيبة بالالتزام بالضوابط الشرعية فى التمويل، فهى تخلو من الربا تماما وتقدم بدائل متنوعة ليتم تمويل المنتجين حسب احتياجاتهم وظروفهم، وتبعا لنوعية المنتجات وكميتها، كالسَّلَم والمشاركة والاستصناع والمرابحة والمزارعة... إلخ، وتلك الصيغ يمكن أن تعتمد عليها البنوك الإسلامية أو الجمعيات التعاونية أو بيوت التمويل الإسلامى، كما تحث على توجيه بعض مصارف الزكاة لتمويل المنتجين الفقراء، وتعمل على تشجيع الوقف والقرض الحسن كونها أدوات لتمويل المنتجين.
ونقترح أيضا أن تتضمن منظومة التجارة الطيبة هيئة إلزامية للرقابة الشرعية، تراقب التصرفات التمويلية للجهات المانحة، وتراجع العقود المبرمة بين المنتج والمشترى، للتأكد من التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية، وذلك على عكس الحال من نظام التجارة العادلة المطبق حاليا فى أغلب الدول الإسلامية، الذى يجبر فيه المنتج على التعامل بالربا المحرم، واتباع صيغ تمويلية تتضمن الوقوع فى المحظورات.
معايير الإنتاج وفق التجارة الطيبة
يمكن تلخيص أهم معايير الإنتاج وفق منظومة التجارة الطيبة المقترحة فيما يلى:
أ- المعايير الاقتصادية: والتى تشمل كيفية تحديد أسعار المنتجات بصورة عادلة، وتحدد دور منظمات صغار المنتجين فى التسويق ودعم الإنتاج، وتؤكد ضرورة توقيع العقود التى تضمن مصالح المنتجين.
ب- المعايير الاجتماعية: والتى تشمل العمل على تمكين صغار المنتجين، وتحقيق المساواة، وتأكيد مبادئ الديمقراطية والمشاركة والشفافية.
ج- المعايير البيئية: والتى تضمن حماية البيئة، من خلال مجموعة من الممارسات البيئية السليمة التى دعت إليها التجارة العادلة وتضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية، مثل حظر استخدام المبيدات الكيماوية، وترشيد استخدام المياه، ومنع تجريف التربة، وتقييد التعامل بالهندسة الوراثية.
د- المعايير التوظيفية: التى تشمل سياسات التشغيل والأجور، وحماية حقوق العمال، وإجراءات السلامة المهنية والصحية، كما حددتها منظومة التجارة العادلة وكما أقرها الإسلام.
هـ- المعايير الشرعية: التى تدور حول الالتزام بأحكام الشريعة فى إنتاج الطَيِّبات، والابتعاد عن الخبائث والنجاسات، ويجب أن تتضمن هذه المعايير النص على المحرمات من شتى أنواع الأطعمة والمشروبات، سواء كانت تقليدية أو مستحدثة، وتحديد مواصفات إنتاج الأطعمة المصنعة وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
الإطار المؤسسى للتجارة الطيبة
ومن أجل الانتقال من الأصيل النظرى إلى الجانب العملى، اقترحنا الإطار المؤسسى اللازم لتحويل الفكرة إلى واقع، من خلال بناء هرمى مؤسسى، يأتى على قمته المنظمة الإسلامية العالمية للتجارة الطيِّبة، كون ذلك مظلة قانونية راعية لهذا النموذج تتولى وضع الأطر العامة لتطبيقه.
وينبثق عن هذه المنظمة ثلاث هيئات:
الأولى: المنظمة الإسلامية للرقابة والاعتماد، وتضم هيئة الرقابة الشرعية (تمثل المرجعية الشرعية العليا لكافة أطراف المنظومة ومؤسساتها العاملة، وتتولى تعيين هيئات الرقابة الشرعية داخل فروع المنظمة الإسلامية العالمية للتجارة الطيبة) كما تضم المنظمة الإسلامية لاعتماد منتجات التجارة الطيبة (تضطلع بوضع المعايير اللازمة لاعتماد المنتجات، وتحديد قواعد وإجراءات الحصول على العلامة التجارية المعتمدة للنموذج).
الثانية: الهيئة الإسلامية للتمويل الإنتاجى للتجارة الطيبة (تقوم بمهمة تيسير تمويل المنتجين داخل منظومة التجارة الطيبة).
الثالثة: المنظمة الإسلامية لتعزيز وتنمية التجارة الطيبة، وتضم فى إطارها ثلاث هيئات فرعية، وهى: هيئة تعزيز تسويق منتجات التجارة الطيبة (تعمل على تسويق منتجات التجارة الطيبة على مستوى العالم الإسلامى، وكذلك على المستوى الدولى)، وهيئة بحوث ودراسات التجارة الطيبة (تختص بإجراء البحوث والدراسات حول المنتجين والمستهلكين، وغير ذلك من الدراسات اللازمة) وأخيرا هيئة الإعلام والتوعية بالتجارة الطيبة (تعمل على إدارة حملات توعية وتثقيف للمستهلكين، لتوعيتهم بأهمية تشجيع منظومة التجارة الطيبة).
وتنتهى الدراسة باقتراح مجموعة من التوصيات على رأسها دعوة منظمة التعاون الإسلامى لتبنى فكرة إنشاء «المنظمة الإسلامية للتجارة الطيبة» بهدف العمل على تفعيل منظومة التجارة الطيبة، ووضع الإطار المؤسسى الذى يضمن تطبيقها بنجاح، ويمكن لأى من الدول ذات المكانة الكبيرة فى العالم الإسلامى (كمصر أو تركيا) القيام بمهمة الدعوة لتبنى إنشاء هذه المنظمة.
كما تقترح الدراسة إنشاء علامة تجارية دولية تحمل شعار طَيِّبات Taibat تختص «المنظمة الإسلامية للتجارة الطيبة» باعتماد معاييرها، بالتعاون مع المعهد الإسلامى للمعايير والمقاييس، ويجب أن تشمل هذه المعايير جميع المعايير الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والتوظيفية والشرعية التى اقترحتها الدراسة، بحيث لا يتم منح هذه العلامة إلا للمنتجات التى تلتزم بهذه المعايير مجتمعة.
ونقترح أيضا تفعيل دور الأوقاف والزكاة فى تمويل المنتجين داخل منظومة التجارة الطيبة المقترحة، بالإضافة إلى صيغ التمويل الإنتاجية الأخرى، استرشادا بما كان لهما من دور عظيم الأثر فى تمويل صغار المنتجين فى الحضارة الإسلامية.
وأخيرا لابد من استثمار الصعود الإسلامى الواضح فى بلدان ثورات الربيع العربى، فى تحفيز تطبيق منظومة التجارة الطيبة، كجزءٍ من خطط الإصلاح الاقتصادى ذات التوجه الإسلامى فى تلك البلدان.
** لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع لأصل الدراسة، وهى رسالة ماجستير قدمتها الباحثة بالمعهد العالى للدارسات الإسلامية، بعنوان «نظام التجارة العادلة فى الاقتصادات المعاصرة.. دراسة مقارنة بالفكر الإسلامى»، 2012، ومنشورة بمركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، 2013.
Comments